فصل: تفسير الآيات (80- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي}.
كان هذا الوحي لموسى عليه السلام بعد أنِ انتهت المعركة، وانتصر فيها معسكر الإيمان، أما فرعون فقد خسر سلاحًا من أهمِّ أسلحته وجانبًا كبيرًا من سَطْوته وجبروته.
وهنا جمع موسى بني إسرائيل، وهم بقايا ذرية آل يعقوب ليذهب بهم إلى أرض الميعاد، وسرعان ما أعدَّ فرعون جيشه وجمع جموعه، وسار خلفهم يتبعهم إلى ساحل البحر، فإذا بموسى وقومه مُحَاصرين: البحر من أمامهم، وفرعون بجيشه من خلفهم، وليس لهم مَخْرج من هذا المأزق.
هذا حُكْم القضايا البشرية المنعزلة عن ربِّ البشر، أما في نظر المؤمن فلها حَلٌّ؛ لأن قضاياه ليست بمعزل عن ربه وخالقه؛ لأنه مؤمن حين تصيبه مصيبة، أو يمسه مكروه ينظر فإذا ربُّه يرعاه، فيلجأ إليه، ويرتاح في كَنَفِه.
لذلك يقولون: لا كَرْبَ وأنت ربٌّ، وما دام لي رب ألجأ إليه فليست هناك معضلة، المعضلة فيمن ليس له رَبٌّ يلجأ إليه.
وقد ضربنا لذلك مثلًا ولله المثل الأعلى لو أن إنسانًا معه في جيبه جنيه، فسقط منه في الطريق، فإذا لم يكُنْ عنده غيره يحزن أمّا إنْ كان لديه مال آخر فسوف يجد فيه عِوَضًا عَمَّا ضاع منه، هذا الرصيد الذي تحتفظ به هو إيمانك بالله.
وهنا جاء الأمر من الله تعالى لموسى عليه السلام ليُخرجه وقومه من هذا المأزق: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فاضرب لَهُمْ طَرِيقًا فِي البحر يَبَسًا} [طه: 77].
أَسْرِ: من الإسراء ليلًا. أي: السير؛ لأنه أستر للسائر.
وقوله: {بِعِبَادِي} [طه: 77] كملة عبد تُجمع على عبيد: وعباد والفَرْق بينهما أن كل مَنْ في الكون عبيد لله تعالى؛ لأنهم وإنْ كانوا مختارين في أشياء، فهم مقهورون في أشياء أخرى، فالذي تعوَّد باختياره على مخالفة منهج الله، وله دُرْبة على ذلك، فله قَهْريات مثل المرض أو الموت.
أما العباد فهم الصَّفْوة التي اختارت مراد الله على مرادها، واختياره على اختيارها، فإنْ خيَّرهم: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] خرجوا عن اختيارهم لاختيار ربهم.
لذلك نسبهم الله إليه فقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] وقال عنهم: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وقال: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا} [الفرقان: 63].
ويقول الحق سبحانه: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقًا فِي البحر يَبَسًا} [طه: 77] أي: يابسًا جافًا وسط الماء.
والضرب: إيقاع شيء من ضارب بآلة على مضروب، ومنه ضرَب العملة أي: سكَّها وختمها، فبعد أنْ كان قطعةَ معدن أصبح عملة متداولة.
وضرب موسى البحر بعصاه فانفلق البحر وانحسر الماء عن طريق جافّ صالح للمشي بالأقدام، وهذه مسألة لا يتصورها قانون البشر؛ لذلك يُطمئنه ربه {لاَّ تَخَافُ دَرَكًا} [طه: 77] أي: من فرعون أنْ يُدرِككَ {وَلاَ تخشى} [طه: 77] أي: غرقًا من البحر؛ لأن الطريق مضروب أي: مُعَد ومُمهَّد وصالح لهذه المهمة.
وهذه معجزة أخرى لعصا موسى التي ألقاها، فصارت حية تسعى، وضرب بها البحر فانفلق فصار ما تحت العصا طريقًا يابسًا، وما حولها جبالًا {كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63] وهي التي ضرب بها الحجر فانبجس منه الماء.
والسياق هنا لم يذكر شيئًا عن الحوار الذي دار بين موسى وقومه حينما وقعوا في هذه الضائقة، لكن جاء في لقطة أخرى من القصة حيث قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 6162].
وبتعدد اللقطات في القرآن تكتمل الصورة العامة للقصة، وليس في ذلك تكرار كما يتوهّم البعض.
فقبل أنْ يُوحِي إليه: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقًا فِي البحر يَبَسًا} [طه: 77] قال القوم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] فقال: {كَلاّ}. لكن كيف يقولها قَوْلة الواثق وما يخافون منه محتمل أنْ يقع بعد لحظة؟
نقول: لأنه لم يقل {كَلاَّ} من عنده، لم يَقُلها بقانون البشر، إنما بقانون خالق البشر {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] فأنا لا أغالطكم، ولسْتُ بمعزل عن السماء وتوجيه ربي.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ}.
قوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] غشيهم يعني: غطّاهم الماء، وقد أبهم هذا الحدث للدلالة على فظاعته وهَوْله، وأنه فوق الحَصْر والوصف، كأن تقول في الأمر الذي لا تقدر على تفصيله: حصل ما حصل.
وفي لقطة أخرى لهذه الحادثة يُبيِّن الحق تبارك وتعالى أن موسى عليه السلام بعد أن عبر بقومه آمنًا أراد باجتهاده وترجيحاته الإيمانية أن يضرب البحر مرة أخرى ليعود إلى سيولته فلا يتمكن فرعون من اللحاق به، لكن توجيهات ربه لها شأن آخر. فأوحى الله إليه: {واترك البحر رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24].
أي: اتركه كما هو لا تُعِدْه إلى استطراق سيولته، فكما أنجيتك بالماء سأتلف عدوك بالماء، فسبحان مَنْ يُنجِي ويُهلك بالشيء الواحد.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ}.
وسبق أن قال فرعون لقومه. {وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} [غافر: 29].
فأين سبيل الرشاد الذي تحدَّث عنه فرعون بعدَ أنْ أطبق الله عليهم البحر؟ لقد سُقْتهم إلى الهلاك، ولم تسلك بهم مناط النجاة والهداية. فأنت إذن كاذب في ادعاء سبيل الرشاد؛ لأنك أضللتَهم ما هديتهم، وأهلكتهم ما نجَّيتهم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي}.
قوله: {طَرِيقًا}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ به؛ وذلك على سبيلِ المجاز: وهو أنَّ الطريقَ مُتَسَبِّبٌ عن ضَرْب البحرِ، إذ المعنى: اضربْ البحرَ لينغلقَ لهم فيصيرَ طريقًا، فبهذا صَحَّ نسبةُ الضربِ إلى الطريق. وقيل: ضرب هنا بمعنى جَعَلَ أي: اجعل لهم طريقًا وأَشْرِعْه فيه. والثاني: أنه منصوبٌ على الظرفِ. قال أبو البقاء: التقدير: موضعَ طريقٍ، فهو مفعولٌ به على الظاهر. ونظيرُه قوله: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63] وهو مثل: ضربْتُ زيدًا. وقيل: ضرب هنا بمعنى جعل وشرع مثلَ قولهم: ضربْتُ له بسَهْم انتهى. فقولُه على الظاهر يعني أنه لولا التأويلُ لكان ظرفًا.
قوله: {يَبَسًا} صفةٌ ل طريقًا وصَفَه به لِما يَؤُول إليه؛ لأنه لم يكنْ يَبَسًا بعدُ، إنما مرَّت عليه الصَّبا فجفَّفَتْه، كما يروى في التفسيرِ. وهل في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به مبالغةً، أو على حذفِ مضافٍ أو جمع يابس كخادم وخَدَم، وُصِف به الواحدُ مبالغةً كقولِه:
ومِعَىً جِياعًا

أي: كجماعةٍ جِياع، وَصَفَ به لفَرْط جوعه؟
وقرأ الحسنُ {يَبْسًا} بالسكونِ. وهو مصدرٌ أيضًا. وقيل: المفتوحُ اسمٌ، والساكنُ مصدرٌ. وقرأ أبو حيوة: {يابسًا} اسمُ فاعل.
قوله: {لاَّ تَخَافُ} العامَّةُ على {لا تَخاف} مرفوعًا، وفيه أوجهٌ، أحدها: أنه مستأنفٌ فلا محلَّ له من الإِعراب.
الأول: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل {اضرِبْ} أي: اضرب غيرَ خائفٍ. والثالث: أنه صفةٌ ل {طريقًا}، والعائدُ محذوفٌ أي لا تخافُ فيه.
وقرأ حمزةُ وحدَه من السبعة {لا تَخَفْ} بالجزم على النهي. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ نَهْيًا مستأنِفًا.
الثاني: أنه نهيٌ أيضًا في محلِّ نصب على الحال من فاعل {اضرِبْ} أو صفةٌ لطريقًا، كما تقدَّم في قراءةِ العامَّةِ، إلاَّ أن ذلك يحتاج إلى إضمار قول أي: مقولًا لك، أو طريقًا مقولًا فيها: لا تخف. كقوله:
جاؤوا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطّ

الثالث: مجزومٌ على جوابِ الأمر أي: إن تضربْ طريقًا يَبَسًا لا تَخَفْ.
قوله: {وَلاَ تخشى} لم يُقْرأ إلاَّ ثابتَ الألفِ. وكان مِنْ حَقِّ مَنْ قرأ {لا تَخَفْ} جزمًا أن يقرأ: {لا تَخْشَ} بحذفِها، كذا قال بعضُهم. وليس بشيءٍ لأنَّ القراءةَ سُنَّةٌ. وفيها أوجه أحدها: أن تكونَ حالًا. وفيه إشكالٌ: وهو أنَّ المضارعَ المنفيَّ ب {لا} كالمُثْبَتِ في عدمِ مباشرةِ الواو له. وتأويلُه على حذف مبتدأ أي: وأنت لا تخشى كقولِه:
نَجَوْتُ وأَرْهَنُهم مالِكا

والثاني: أنه مستأنفٌ. أخبره تعالى أنه لا يَحْصُل له خوفٌ.
والثالث: أنه مجزومٌ بحذفِ الحركةِ تقديرًا كقولِه:
إذا العَجوْزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ ** ولا تَرَضَّاها ولا تَمَلَّقِ

وقولِ الآخر:
كَأَنْ لم تَرَى قبلي أسيرًا يمانيا

ومنه {فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] في أحد القولين، إجراءً لحرفِ العلة مُجْرى الحرفِ الصحيح. وقد تقدَّم لك من هذا جملةٌ صالحة في سورةِ يوسف عند {مَن يَتَّقِ} [الآية: 90]. والرابع: أنه مجزومٌ أيضًا بحذفِ حرفِ العلةِ. وهذه الألفُ ليسَتْ تلك، أعني لامَ الكلمة، إنما هي ألفُ إشباع أُتِيَ بها موافقةً للفواصلِ ورؤوسِ الآي، فهي كالألفِ في قولِه: {الرسولا} [الأحزاب: 66] و{السبيلا} [الأحزاب: 67] و{الظنونا} [الأحزاب: 10] وهذه الأوجهُ إنما يحتاجُ إليها في قراءةِ جزمِ {لا تَخَفْ}. وأمَّا من قرأه مرفوعًا فهذا معطوفٌ عليه.
وقرأ أبو حيوة: {دَرْكًا} بسكون الراء. والدَّرَك والدَّرْك اسمان من الإِدراك أي: لا يُدركك فرعونُ وجنوده. وقد تقدَّم الكلامُ عليهما في سورة النساء، وإنَّ الكوفيين قرؤوه بالسكونِ كأبي حيوةَ هنا.
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)}.
قوله: {بِجُنُودِهِ}: فيه أوجهٌ: أحدها: أن تكونَ الباءُ للحالِ: وذلك على أنَّ أَتْبَعَ متعدٍّ لاثنين حُذف ثانيهما. والتقدير: فَأَتْبَعهم فرعونُ عقابهُ. وقدَّره الشيخ: رُؤَساءه وحَشَمه والأول أحسن. والثاني: أنَّ الباءَ زائدةٌ في المفعولِ الثاني. والتقدير: فَأَتْبَعهم فرعونُ جنودَه فهو كقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] وقولِ الشاعر:
لا يَقْرَأْن بالسُّوَرِ

وأتبع قد جاء متعدِّيًا لاثنين مُصَرَّحٍ بهما قال: {وَأَتْبَعْنَاهُم} والثالث: أنها مُعَدِّيَةٌ على أنَّ أَتْبَعَ قد يتعدَّى لواحدٍ بمعنى مع، ويجوزُ على هذا الوجه أن تكونَ الباءُ للحالِ أيضًا، بل هو الأظهرُ.
وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ والحسنُ {فاتَّبَعَهُمْ} بالتشديد، وكذلك قراءة الحسن في جميع القرآن/ إلاَّ في قولِه: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10].
قوله: {مَا غَشِيَهُمْ} فاعلُ {غَشِيَهم}، وهذا من باب الاختصار وجوامعِ الكَلِمِ التي يَقِلُّ لفظُها ويكثُر معناها أي: فغشِيَهم ما لا يَعْلم كُنْهَه إلاَّ اللهُ تعالى. وقرأ الأعمش: {فَغَشَّاهم} مضعَّفًا. وفي الفاعل حينئذٍ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه {ما غَشَّاهم} كالقراءةِ قبله. أي: غَطَّاهم من اليَمِّ ما غَطَّاهم. والثاني: هو ضميرُ الباري تعالى أي: فَغَشَّاهم اللهُ. والثالث: هو ضميرُ فرعونَ لأنه السببُ في إهْلاكهم. وعلى هذين الوجهين ف {ما غَشَّاهم} في محلّ نصبٍ مفعولًا ثانيًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي}.
لما عَبَرَ موسى ببني إسرائيل البحر، وقرب منه فرعون، ورأى البحرَ منفلقًا والطريقَ فيه يَبَسًا عَيَّرَ قَوْمَه بتلبيسه فقال: إنه بحشمتي انفلق، فأنا ربُّكم الأعلى! وحصل- كما في القصة- من دخوله بعَسْكَرِه البحرَ حتى دخل آخرهم، وهمَّ أن يخرج أَوَّلُهم، فأمر اللَّهُ البحرَ حتى التطمت أمواجه فغرقوا بجملتهم، وآمن فرعون لما ظهر له اليأسُ، ولم ينفعه إقراره، وكان ينفعه لو لم يكن إصرارُه، وقد أدركته الشقاوةُ التي سَبَقَتْ له من التقدير. اهـ.

.تفسير الآيات (80- 82):

قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا موجبًا للتشوف إلى ما وقع لبني إسرائيل بعده، قال تعالى شافيًا لهذا الغليل، أقبلنا على بني إسرائيل ممتنين بما مضى وما يأتي قائلين: {يا بني إسرائيل} معترفين لهم أنا نظرنا إلى السوابق فأكرمناهم لأجل أبيهم.
ولما كان درء المفاسد وإزالة الموانع قبل جلب المصالح واستدرار المنافع قال: {قد أنجيناكم} بقدرتنا الباهرة {من عدوكم} الذي كنتم أحقر شيء عنده.
ولما تفرغوا لإنفاذ ما يراد منهم من الطاعة قال: {وواعدناكم} أي كلكم- كما مضى في البقرة عن نص التوراة- للمثول بحضرتنا والاعتزاز بمواطن رحمتنا {جانب الطور الأيمن} أي الذي على أيمانكم في توجهكم هذا الذي وجوهكم فيه إلى بيت أبيكم إبراهيم عليه السلام، وهو جانبه الذي يلي البحر وناحية مكة واليمن.
ولما بدأ بالمنفعة الدينية، ثنى بالمنفعة الدنيوية فقال: {ونزلنا عليكم} بعد إنزال هذا الكتاب في هذه المواعدة لإنعاش أرواحكم {المن والسلوى} لإبقاء أشباحكم، فبدأ بالإنجاء الممكن من العبادة، ثم أتبعه بنعمة الكتاب الدال عليها، ثم بالرزق المقوي، ودل على نعمة الإذن فيه بقوله: {كلوا} ودل على سعته بقوله: {من طيبات ما} ودل على عظمته بقوله: {رزقناكم} من ذلك ومن غيره.
ولما كان الغنى والراحة سبب السماحة، قال: {ولا تطغوا فيه} بالادخار إلى غد في غير يوم الجمعة ولا بغير ذلك من البطر وإغفال الشكر بصرفه في غير الطاعة {فيحل} أي ينزل ويجب في حينه الذي هو أولى الأوقات به- على قراءة الجماعة بالكسر، ونزولًا عظيمًا وبروكًا شديدًا- على قراءة الكسائي بالضم {عليكم غضبي} فتهلكوا لذلك {و} كل {من يحلل عليه غضبي} منكم ومن غيركم {فقد هوى} أي كان حاله حال من سقط من علو.
ولما كان الإنسان محل الزلل وإن اجتهد، رجاه واستعطفه بقوله: {وإني لغفار} أي ستار بإسبال ذيل العفو {لمن تاب} أي رجع عن ذنوبه من الشرك وما يقاربه {وءامن} بكل ما يجب الإيمان به {وعمل صالحًا} تصديقًا لإيمانه.
ولما كانت رتبة الاستمرار على الاستقامة في غاية العلو، عبر عنها بأداة التراخي فقال: {ثم اهتدى} أي استمر على العمل الصالح متحريًا به إيقاعه على حسب أمرنا وعلى أقرب الوجوه المرضية لنا، له إلى ذلك غاية التوجه كما يدل عليه صيغة افتعل، وكأنه لما رتب الله سبحانه منازل قوم موسى عليه السلام عامة والسبعين المختارين منهم خاصة في الجبل- كما مضى عن نص التوراة في سورة البقرة، وواعده الكلام بعد ثلاثين ليلة ولم يعين له أولها، وكأنه لاشتياقه إلى ما رأى من التعرف إليه بمقام الجمال لم يتوقف على خصوص إذن من الله تعالى في أول وقت الإتيان اكتفاء بمطلق الأمر السابق في الميعاد، فتعجل بعشرة أيام عن الوقت الذي علم الله أن الكلام يقع فيه بعد الثلاثين التي ضربها لذلك، وأمر موسى عليه السلام قومه عند نهوضه، وتقدم إليهم في اتباعه والكون في أثره للحلول في الأماكن التي حدها الله لهم وأمر السبعين المختارة بمثل ذلك، وكأنهم لما مضى تلبثوا لما رأوا من مقام الجلال، فلما مضت الثلاثون بعد ذهاب موسى لم يكن أتى الوقت الذي أراد الله أن تكون المناجاة فيه، فزاده عشرًا فظن بنو اسرائيل الظنون في تلك العشرة، ووقع لهم ما وقع من اتخاذ العجل. اهـ.